فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بجر حاتم بالإبدال من الهاء في وجوده، واستبعده أبو حيان للفصل بجملتين بين البدل والمبدل منه، وقيل: المصدر مرفوع على أنه خبر محذوف أي الموجب لذلك دعاؤهم للرحمن ولدًا وفيه بحث.
وقيل: هو مرفوع على أنه فاعل هدا ويعتبر مصدرًا مبنيًا للفاعل أي هدها دعاؤهم للرحمن ولدًا.
وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدًا لأن الظاهر كون هذا المصدر تأكيديًا والمصدر التأكيدي لا يعمل ولو فرض غير تاكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا إذا كان أمرًا كضربا زيدًا أو بعد استفهام كاضربا زيدًا وما هنا ليس أحد الأمرين وما جاء عاملًا وليس أحدهما كقوله:
وقوفًا بها صحبي على مطيهم

نادر. والتزام كون ما هنا من النادر لا يدفع البعد. ولعل ما ذكرناه أدق الأوجه وأولاها فتدبر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. و{دَّعَوَا} عند الأكثرين بمعنى سموا. والدعاء بمعنى التسمية يتعدى لمفعولين بنفسه كما في قوله:
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ** أخاها ولم أرضع لها بلبان

وقد يتعدى للثاني بالباء فيقال دعوت ولدي بزيد واقتصر هنا على الثاني وحذف الأول دلالة على العموم والإحاطة لكل ما دعى له عز وجل ولدًا من عيسى، وعزير عليهما السلام، وغيرهما. وجوز أن يكون من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من ادعى إلى غير مواليه» وقول الشاعر:
أنا بني نهشل لا ندعى لاب ** عنه ولا هو بالابناء يشرينا

فيتعدى لواحد، والجار والمجرور جوز أن يكون متعلقًا بمحذوف وقع حالًا من {وَلَدًا} وأن يكون متعلقًا بما عنده، وجملة {مَا يَنبَغِى} حال من فاعل {دَّعَوَا}، وقيل: من فاعل {قَالُواْ} [مريم: 88]، {وينبغي} مضارع انبغى مطاوع بغي بمعنى طلب وقد سمع ماضيه فهو فعل متصرف في الجملة، وعده ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وغلطه في ذلك أبو حيان، ويمكن أن يقال: مراده أنه لا يتصرف تامًا، {وَأَنْ يَتَّخِذِ} في تأويل مصدر فاعله، والمراد لا يليق به سبحانه اتخاذ الولد ولا يتطلب له عز وجل لاستحالة ذلك في نفسه لاقتضائه الجزئية أو المجانسة واستحالة كل ظاهرة، ووضع الرحمن موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم بالتنبيه على أن كل ما سواه تعالى إما نعمة أو منعم عليه وأين ذلك ممن هو مبدأ النعم وموالي أصولها وفروعها.
وقد أشير إلى ذلك بقوله سبحانه: {إِن كُلُّ مَن في السموات والأرض} أي ما منهم أحد من الملائكة والثقلين {إِلا اتِى الرحمن عَبْدًا} أي إلا وهو مملوك له تعالى يأوي إليه عز وجل بالعبودية والانقياد لقضائه وقدره سبحانه وتعالى فالاتيان معنوي، وقيل: هو حسي، والمراد إلا ءاتى محل حكمه وهو أرض المحشر منقادًا لا يدعى لنفسه شيئًا مما نسبوه إليه وليس بذاك كما لا يخفى، و{مِنْ} موصولة بمعنى الذي و{كُلٌّ} تدخل عليه لأنه يراد منه الجنس كما قيل في قوله تعالى: {والذى جَاء بالصدق} [الزمر: 33] وقوله:
وكل الذي حملتني أتحمل

وقيل: موصوفة لأنها وقعت بعد {كُلٌّ} نكرة وقوعها بعد رب في قوله:
رب من أنضجت غيظًا صدره ** قد تمنى لي موتًا لم يطع

ورجح في البحر الأول بأن مجيئها موصوفة بالنسبة إلى مجيئها موصولة قليل: وقرأ عبد الله، وابن الزبير وأبو حيوة، وطلحة، وأبو بحرية، وابن أبي عبلة، ويعقوب {ءات} بالتنوين {مُّقْتَدِرِ الرحمن} بالنصب على الأصل. ونصب {عَبْدًا} في القراءتين على الحال، واستدل بالآية على أن الوالد لا يملك ولده وأنه يعتق عليه إذا ملكه. {لَقَدِ} حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يكاد يخرج أحد منهم من حيطة علمه وقبضة قدرته جل جلاله.
{أحصاهم وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم فإن كل شيء عنده تعالى بمقدار.
{وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْدًا} أي منفردًا من الأتباع والأنصار منقطعًا إليه تعالى غاية الانقطاع محتاجًا إلى إعانته ورحمته عز وجل فكيف يجانسه ويناسبه ليتخذه ولدًا وليشرك به سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، وقيل: أي كل واحد من أهل السموات والأرض العابدين والمعبودين آتيه عز وجل منفردًا عن الآخر فينفرد العابدون عن الآلهة التي زعموا أنها أنصار أو شفعاء والمعبودون عن الأتباع الذين عبدوهم وذلك يقتضي عدم النفع وينتفي بذلك المجانسة لمن بيده ملكوت كل شيء تبارك وتعالى، وفي {ءاتِيهِ} من الدلالة على إتيانهم كذلك البتة ما ليس في يأتيه فلذا اختير عليه وهو خبر {كُلُّهُمْ} وكل إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم أو كل الناس فالمنقول أنه يجوز عود الضمير عليه مفردًا مراعاة للفظه فيقال كلكم ذاهب، ويجوز عوده عليه جمعًا مراعاة لمعناه فيقال: كلكم ذاهبون.
وحكى إبراهيم بن أصبغ في كتاب رؤس المسائل الاتفاق على جواز الأمرين، وقال أبو زيد السهيلي: إن كلا إذا ابتدىء به وكان مضافًا لفظًا أي إلى معرفة لم يحسن إلا أفراد الخبر حملًا على المعنى لأن معنى كلكم ذاهب مثلًا كل واحد منكم ذاهب وليس ذلك مراعاة للفظ وإلا لجاز القوم ذاهب لأن كلا من كل والقوم اسم جمع مفرد اللفظ اه وفي البحر يحتاج في إثبات كلكم ذاهبون بالجمع إلى نقل عن العرب والزمخشري في تفسير هذه الآية استعمل الجمع وحسن الظن فيه أنه وجد ذلك في كلامهم، وإذا حذف المضاف إليه المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان ولا كلام في ذلك. اهـ.

.قال القاسمي:

ولما قرر تعالى في هذه السورة عبودية عيسى عليه السلام، وذكر خلقه من مريم بلا أب، عطف عليه حكاية جنايتهم من دعوى النبوّة له، مهولًا لأمرها. وكذا جناية أمثالهم من اليهود والعرب ممن يسمي بعض المخلوقات ابنًا أو بنتًا له، تعالى وتقدّس- عطف قصته على قصته بقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} أي: عظيمًا منكرًا. وفي رد مقالتهم وتهويل أمرها بطريق الالتفات، إشعار بشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع، والتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجراءة والجهل. ثم وصف شدة شأن مقولهم بقوله سبحانه: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ}.
أي: يتشقّقن: {وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ} أي: لأن: {دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} وذلك لغيرتها على المقام الربانيّ الأحديّ أن ينسب له ما ينزه عنه ويعر بحاجته ووجود كفء له وفنائه. وذلك لأن الولادة إنما تكون من الحيّ الذي له مزاج فهو مركب ونهايته إلى انحلال وفناء، وهو سبحانه تنزه عن ذلك، كما قال: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} أي: مملوكًا له يأوي إليه بالعبودية والذل.
{لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ} أي: حصرهم وأحاط بهم إحاطة لا يخرج بها أحد عن حيطة علمه وقبضة قدرته: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} أي: منفردًا مجردًا من الأتباع والأنصار، وعمن زعم أن له من الشفعاء. فإنهم منهم براء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)}.
عطف على جملة {ويقول الإنسان أإذا ما مت} [مريم: 66] أو على جملة {واتخذوا من دون الله آلهة} [مريم: 81] إتمامًا لحكاية أقوالهم، وهو القول بأن لله ولدًا، وهو قول المشركين: الملائكة بنات الله.
وقد تقدم في سورة النحل وغيرها؛ فصريح الكلام رد على المشركين، وكنايته تعريض بالنّصارى الذين شابهوا المشركين في نسبة الولد إلى الله، فهو تكملة للإبطال الذي في قوله تعالى آنفًا: {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه} [مريم: 35] إلخ.
والضمير عائد إلى المشركين، فيفهم منه أنّ المقصود من حكاية قولهم ليس مجرد الإخبار عنهم، أو تعليم دينهم ولكن تفظيع قولهم وتشنيعه، وإنما قالوا ذلك تأييدًا لعبادتهم الملائكة والجن واعتقادهم شفعاء لهم.
وذكر {الرّحمان} هنا حكاية لقولهم بالمعنى، وهم لا يذكرون اسم الرحمان ولا يُقرون به، وقد أنكروه كما حكى الله عنهم: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان} [الفرقان: 60]، فهم إنما يقولون: {اتخذ الله ولدًا} كما حكي عنهم في آيات كثيرة منها آية سورة الكهف (4).
فذكر {الرحمن} هنا وضع للمرادف في موضع مرادفه، فذكر اسم {الرحمان} لقصد إغاظتهم بذكر اسم أنكروه.
وفيه أيضًا إيماء إلى اختلال قولهم لمنافاة وصف الرحمان اتخاذ الولد كما سيأتي في قوله: {وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولدًا}.
والخطاب في {لقد جئتم} للذين قالوا اتخذ الرحمان ولدًا، فهو التفات لقصد إبلاغهم التوبيخ على وجه شديد الصراحة لا يلتبس فيه المراد، كما تقدم في قوله آنفًا: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 71] فلا يحسن تقدير: قل لقد جئتم.
وجملة {لقد جئتم شيئًا إدًّا} مستأنفة لبيان ما اقتضته جملة {وقالوا اتّخذ الرحمان ولدًا} من التشنيع والتفظيع.
وقرأ نافع والكسائي بياء تحتية على عدم الاعتداد بالتأنيث، وذلك جائز في الاستعمال إذا لم يكن الفعل رافعًا لضمير مؤنث متصل، وقرأ البقية: {تكاد} بالتاء المثناة الفوقية، وهو الوجه الآخر.
والتفطر: الانشقاق، والجمع بينه وبين {وتنشق الأرض} تفنّن في استعمال المترادف لدفع ثقل تكرير اللفظ. والخرور: السقوط. و{من} في قوله: {منه} للتعليل، والضمير المجرور بمن عائد إلى {شيئًا إدًا}، أو إلى القول المستفاد من {قالوا اتخذ الرحمن ولدًا}. والكلام جار على المبالغة في التهويل من فظاعة هذا القول بحيث إنه يبلغ إلى الجمادات العظيمة فيُغيّر كيانها.
وقرأ نافع، وابن كثير، وحفص عن عاصم، والكسائي: {يتفطرن} بمثناة تحتية بعدها تاء فوقية. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف، وأبو بكر عن عاصم، بتحتية بعدها نون، من الانفطار.
والوجهان مطاوع فطَر المضاعف أو فطر المجرد، ولا يكاد ينضبط الفرق بين البنيتين في الاستعمال. ولعلّ محاولة التّفرقة بينهما كما في الكشاف والشافية لا يطرد، قال تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} [الفرقان: 25]، وقال: {إذا السماء انشقت} [الانشقاق: 1]، وقرئ في هذه الآية: {ينفطرون} و{ينفطرن}، والأصل توافق القرآتين في البلاغة. والهدّ: هدم البناء. وانتصب {هَدًّا} على المفعولية المطلقة لبيان نوع الخرور، أي سقوط الهَدم، وهو أن يتساقط شظايا وقطعًا.
و{أن دَعوا للرحمان ولدًا} متعلّق بكل مِن {يتفطرن}، و{تنشق}، و{تخرّ}، وهو على حذف لام الجرّ قبل أنْ المصدريّة وهو حذف مطرّد.
والمقصود منه تأكيد ما أفيد من قوله: {منه}، وزيادةُ بيانٍ لمعادِ الضمير المجرور في قوله: {منه} اعتناء ببيانه. ومعنى {دَعَوا}: نسبوا، كقوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} [الأحزاب: 5]، ومنه يقال: ادّعى إلى بني فلان، أي انتسب. قال بَشامة بن حَزْن النهشلي:
إنّا بني نَهشل لا نَدّعي لأب ** عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

وجملة {وما ينبغي للرحمان أن يتّخذ ولدًا} عطف على جملة: {وقالوا اتخذ الرحمان ولدًا}. ومعنى {ما ينبغي} ما يتأتّى، أو ما يجوز. وأصل الانبغاء: أنّه مطاوع فعل بغى الذي بمعنى طلَب. ومعنى، مطاوعِته: التأثّر بما طُلب منه، أي استجابةُ الطلب.
نقل الطيبي عن الزمخشري أنه قال في (كتاب سيبويه): كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعُه على الانفعال كصَرف وطلب وعلم، وما ليس فيه علاج كعَدم وفقد لا يتأتى في مطاوعه الانفعال البتة. اهـ.
فبان أن أصل معنى {ينبغي} يستجيب الطلب.
ولما كان الطلب مختلف المعاني باختلاف المطلوب لزم أن يكون معنى {ينبغي} مختلفًا بحسب المقام فيستعمل بمعنى: يتأتى، ويمكن، ويستقيم، ويليق، وأكثر تلك الإطلاقات أصله من قبيل الكناية واشتهرت فقامت مقام التصريح.
والمعنى في هذه الآية: وما يجوز أن يتّخذ الرحمان ولدًا، بناء على أن المستحيل لو طلب حصوله لما تأتّى لأنه مستحيل لا تتعلّق به القدرة، لا لأنّ الله عاجز عنه، ونحوُ قوله: {قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} [الفرقان: 18] يفيد معنى: لا يستقيم لنا، أو لا يُخوّل لنا أن نتخذ أولياء غيرك، ونحو قوله: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} [يس: 40] يفيد معنى لا تسْتطيع. ونحو {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} [يس: 69] يفيد معنى: أنه لا يليق به، ونحو: {وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي} [ص: 35] يفيد معنى: لا يستجاب طلبه لطالبه إن طلبه، وفرقٌ بين قولك: ينبغي لك أن لا تفعل هذا، وبين لا ينبغي لك أن تفعل كذا، أي ما يجوز لِجلال الله أن يتخذ ولدًا لأنّ جميع الموجودات غيرَ ذاته تعالى يجب أن تكون مستوية في المخلوقية له والعبودية له. وذلك ينافي البُنوة لأن بُنوة الإله جزء من الإلهية، وهو أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى: {قل إن كان للرّحمان ولد فأنا أول العابدين} [الزخرف: 81]، أي لو كان له ولد لعبدتُه قبلكم.
ومعنى {آتي الرحمان عبدًا}: الإتيان المجازي، وهو الإقرار والاعتراف، مثل: باء بكذا، أصله رجع، واستعمل بمعنى اعترَف.
و{عبدًا} حال، أي معترف لله بالإلهية غير مستقل عنه في شيء في حال كونه عبدًا.
ويجوز جعل {آتي الرحمان} بمعنى صائر إليه بعد الموت، ويكون المعنى أنّه يحيا عبدًا ويحشر عبدًا بحيث لا تشوبه نسبة البنوة في الدنيا ولا في الآخرة.
وتكرير اسم {الرّحمان} في هذه الآية أربع مرات إيماء إلى أن وصف الرحمان الثابت لله، والذي لا ينكر المشركون ثبوت حقيقته لله وإن أنكروا لفظه، ينافي ادعاء الولد له لأنّ الرحمان وصف يدلّ على عموم الرّحمة وتكثرها.
ومعنى ذلك: أنّها شاملة لكل موجود، فذلك يقتضي أن كل موجود مفتقر إلى رحمة الله تعالى، ولا يتقوم ذلك إلا بتحقق العبودية فيه. لأنه لو كان بعض الموجودات ابنًا لله تعالى لاستغنى عن رحمته لأنه يكون بالبنوة مساويًا له في الإلهية المقتضية الغنى المطلقَ، ولأن اتخاذ الابن يتطلّبُ به متخذُه برّ الابن به ورحمته له، وذلك ينافي كون الله مفيض كلّ رحمة. فذكر هذا الوصف عند قوله: {وقالوا اتخذ الرحمان ولدًا} وقوله: {أن دعوا للرحمان ولدًا} تسجيل لغباوتهم. وذكره عند قوله: {وما ينبغي للرحمان أن يتّخذ ولدًا} إيماء إلى دليل عدم لياقة اتخاذ الابن بالله. وذكرُه عند قوله: {إلا آتي الرحمان عبدًا} استدلال على احتياج جميع الموجودات إليه وإقرارها له بملكه إياها. وجملة {لقد أحصاهم} عطف على جملة {لقد جئتم شيئًا إدًّا}، مستأنفة ابتدائية لتهديد القائلين هذه المقالة. فضمائر الجمع عائدة إلى ما عاد إليه ضمير {وقالوا اتخذ الرحمان ولدًا} وما بعده. وليس عائدًا على {من في السماوات والأرض}، أي لقد علم الله كل من قال ذلك وعدّهم فلا ينفلت أحد منهم من عقابه. ومعنى {وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا} إبطال ما لأجله قالوا اتخذ الله ولدًا، لأنهم زعموا ذلك موجب عبادتهم للملائكة والجنّ ليكونوا شفعاءهم عند الله، فأيْأسهم الله من ذلك بأن كل واحد يأتي يوم القيامة مفردًا لا نصير له كما في قوله في الآية السالفة: {ويأتينا فردًا}. وفي ذلك تعريض بأنهم آتون لما يكرهون من العذاب والإهانة إتيانَ الأعزل إلى من يتمكن من الانتقام منه. اهـ.